Thursday, September 07, 2006

الفنانة نادية محمد ياس: غياب الجسد وحضور الظل


تواجهك الفنانة نادية محمد ياس بصراحة مع ذاتك وترغمك على الاستبطان بطريقة مبسطة ولكن لا تخلو من ذكاء. هذه المواجهة القدرية التي نحاول الهرب منها باستمرار.. نهرب من المرايا وصفحات الماء، كما نهرب من عيون الاخرين وعبراتهم. فهي تجعلنا نسأل عن الحاضر بينما نفتقد الغائب بين ثنايا قطع الاثاث البالية او شماعات الملابس، ثم ترغمنا على تحسس اطرافنا لنتأكد انها لم يتم اقتطاعها لصالح اللوحة. وبينما نجد يدا معلقة الى كرسي، او قدمين غابتا تحت قميص اجوف، يخاورنا شعور بان باقي الجسد قد استحال الى شبح او ظل يخيم على اللوحة معلنا موتا آخر لكائن حي.
ولكن اليد قد تكون امتدادا للكائن الحي في محيط سوريالي يستحضر حضارات سادت ثم بادت.. تلك التي كرست الرجل في صورة ملك – إله لا يشق له غبار، وجعلت المرأة سلاحه في فرض سلطته غير المتناهية، ومن ثم كساها بقميص مزركش بالوان النار اشباعا لغروره وتأكيدا لسطوته. وان كانت الرغبة الجنسية متناظرة بين المرأة والرجل، الا انها في لوحات الفنانة تمردا على امتياز الرجل في احتكارها بما يلائمه. فالمرأة فرس ثائرة حينما يغيب الملك عنها جسدا، ويحضر ظلا باهتا في خلفية اللوحة ليدل على عدم اكتراثه، ولا يقوى قميصها على احتمال فورة الرغبة الجائشة في الصدر فيتفتق كاشفا عنه دون ابتذال.


والمرأة هي عنوان لوحات الفنانة نادية وموضوعها. والعنوان الابرز تمردها على الضعف والعجز، والرغبة في اظهار التساوي والتناظر بين الجنسين. وهي لا تتهم الرجل مباشرة بالاضطهاد والتمييز، لكنها لا تخفي امتعاضها من كتابة التاريخ ذكوريا، واهماله دور حاضنة الرجل صغيرا ويافعا ومن ثم شيخا كبيرا.. او ربما ملكا. نعم هي تبتعد عن الاشارة الى الام او الطفل او الزوجة، ولكنك تملأ هذا الفراغ بايحاءات ذاتية تفرضها الطبيعة كثمرة للحب واشباع الرغبة. وهي تستعين باستعارات شتى لتحملك على التفكير في العائلة. فالملك البابلي يقف الى جانب فراش الزوجية بينما تعرّت الزوجة تلبية لرغبته على ما يبدو.. ويعلن القميص من جديد اشتعال الرغبة في موقع اخر منفصل ولكنه غير بعيد. والملك يقود معشوقته الى الشاطيء ولكنها تستحيل ثوبا احمرا قانيا يقطر دما، بينما يخيم ظلها في طرف اللوحة. والجريمة قد تكون في دورة الحياة المتكررة شهريا.. ضريبة الطفل والعائلة التي تدفعها المرأة منفردة، وعليها وحدها ان تدفع –جسديا- ثمن بناء العائلة. وهي لذلك تسعى الى التخلص من ذلك الجسد بالهروب الى ظله، مع ابقاء الرابط اليه متمثلا بالقميص المرتبط بدوره بالمعشوق-الملك. وبالطبع فان محاولة الحبيب التخفيف من هذه الحمى لا تجدي نفعا فهو انما يواسيها بماء ينقله بدلوه الصغير، بينما تنزف هي دما من جسدها. ومرة اخرى يغيب التوافق، وتعمل الطبيعة على كبح الرغبات هذه المرة.
ان الاستغراق في لوحات الفنانة يمنحك متعة الشعور بان الحياة تدب في الاطراف المجتزأة من كينونات اخرى. لايهم ان كان الكرسي باليا او كان القميص مجعدا.. ففي النهاية هي مجرد ادوات قابلة للاستبدال. ولكن الظل الساكن كما الموت احيانا، او النابض بالعشق احيانا اخرى ينبأك بان حقيقة الحياة لا تعتمد على فيزياء او كيمياء الجسد بقدر اعتمادها على سيكولوجيا الحب والعشق، لحظات النشوة او اوقات السكون المطبق الدال على سلام كوني شامل.
وتعمد الفنانة الى استخدام الوان الاحمر والاصفر والبرتقالي وربما الزهري لاظهار عناصر اللوحة المتقدة، بينما يسود الرمادي والاخضر الداكن وقليل من الازرق عناصر اللوحة الاقل اهمية. وهذا الاختيار اللوني موفق تماما في ملائمته لطبيعة الانسان وانجذابه للالوان الصارخة. فهي انما تستعمل موجات الضوء وتمايز الالوان في مخاطبة لاوعي المتلقي، ونقل الصورة الى مستوى ادراكه الحسي وبالتالي ضمان تفاعله مع اللوحة.
ان اصرار الفنانة نادية محمد ياس على اظهار جوانب مسكوت عنها في حياة المرأة، وطرحها قضية التساوي دون اتهام للطرف المقابل، وتمردها على الضعف والاستسلام الانثوي، وتأكيدها على الحضور والغياب الروحيين دون اعتبار لمتطلبات الزمان والمكان، انما يدل على حس مرهف وشعور متيقظ وجرأة مذهلة، تنساب الى انامل مبدعة لتداعب الريشة والزيت في لوحات اقل ما توصف بانها متعة متسامية، تبدأ باللاوعي لتمر عبر ادراك خفي الى مستوى الوعي الكامل بوجود متمايز ومناظر.

Tuesday, September 20, 2005

نصف الحقيقة.. سوريالية الالم والامل

Painting of Majid
يعتبر المذهب السوريالي احد المتغيرات الرئيسة التي حطمت قيود المذهب الكلاسيكي للفن التشكيلي في بداية القرن المنصرم. وقد ظهرت هذه الحركة على يد الفنانين بابلو بيكاسو وسلفادور دالي، وغيرهما من الفنانين الاوربيين الذين احدثوا ثورة في مفاهيم الفن التشيكلي، كما في الفكر الاوربي الحديث ابان الحربين العالميتين الاولى والثانية، وامتدت تأثيراتها الى يومنا هذا. ولعل السحر الذي يتميز به الفن السوريالي يكمن في مخاطبة منطقة الحلم او اللاوعي في النفس البشرية، ومحاولة كسر القيود الثقافية والاجتماعية، والتواصل بطريقة الايحاء. ورغم ان الفن الكلاسيكي بمدارسه المختلفة سعى منذ البداية الى مثل هذا التواصل من خلال تجسيد عناصر الجمال والكمال في الطبيعة والانسان، الا ان رغبة الانسان في استكناه المجهول وجدت في تداعيات العمل الفني السوريالي قدرة اكبر على تجسيد احاسيس لا يمكن التعبير عنها بخطوط والوان مطابقة للواقع وهو في افضل حالاته. لكن العمل السوريالي مع ذلك واقعي جدا وغير منفصل عن الحياة اليومية، ومتجانس مع تطور الفكر الانساني بشكل عام.
وقد امتدت تأثيرات هذا المذهب لتشمل في وقت مبكر فنانين عراقيين كانوا روادا للنهضة الفنية اولا، ومجسدين لهذا التطور الفكري. فكما احدث السياب ثورة في الشعر بارساله حرا، فانتج روائع تفوق في حسها وسلاستها الكثير من القصائد الصارمة في الوزن والقافية، كذلك فعل فنانون تشكيليون متميزون من امثال فائق حسن وجواد سليم وجميل حمودي ونوري الرواي وغيرهم ممن حملوا لواء هذا المذهب في اربعينيات القرن العشرين وما بعدها. وقد استطاعوا بفضل امتدادهم التاريخي، المتأصل في لاوعيهم، والممتد لالاف عدة من السنين، ان يوجدوا ارضية قوية لهذا المذهب في العراق بحيث حققوا تفردا خاصا بهذه البلاد تحمل سماتها وتنطق بحضاراتها.
واذا كانت الحضارة بشكل عام ملهمة لوارثيها، فلاشك ان الحضارة البابلية قد الهمت ابناء مدينتهم الشيء الكثير، فانتجت فنانين في شتى المذاهب الفنية، ولكن نخص منهم من اتباع المذهب السوريالي الفنانين سعد الطائي وفاخر محمد ومؤيد محسن وسمير يوسف وصفاء السعدون وعاصم عبد الامير واخرون، ممن تفخر القاعات الفنية باعمالهم المتميزة المستوحية للحضارة، والمعبرة عن الفكر بطريق اللاوعي.
لقد قدمت ان الفن السوريالي لا ينفصل عن الواقع، وان استغرق في الرؤية الحلمية اللاواعية. وقد ارتأيت ان اوضح هذه الافكار في لوحة متميزة للفنان العراقي - البابلي ماجد السنجري، وهو سوريالي النزعة، حملت اسم (نصف الحقيقة). ان هذا الفنان العراقي مسكون بالالم للواقع اليومي من العمليات الارهابية التي يعيشها العراق، والتي بدأت تفت في عضد افراد الشعب العراقي، حتى ان فسحة الامل في الخلاص اخذت بالتناقص شيئا فشيئا. لكن لوحته (نصف الحقيقة) قد اخذت منحى آخر. فهي وان كانت تؤكد ضرواة الفعل الارهابي، الا انها تسعى الى التخفيف من حدته بطرح الموازن والنظرة التفاؤلية الحذرة الى المستقبل.
ففي تلك اللوحة تجد توازنا مدهشا بين اللونين الاحمر الاجواني الذي يتدرج نحو الوردي الفاتح، وبين اللون الاخضر النباتي الهاديء. وفيما يتغلل اللون الاصفر في عمق مساحتيهما، يشكل اللونان الازرق والاسود حدود هذا التغلغل. وكأن الفنان بهذا التحديد اللوني اراد ان يسمي الاشياء بمسمياتها، مبتعدا عن اطلاق اوصاف تجميلية لافعال قبيحة او التبشير بما لا يمكن ان يكون.
وقد طرح الفنان موضوعة الارهاب بقوة من خلال العنكبوت المتسلق الى اعلى اللوحة، وهو يقطر دما، يتجمع في اسفلها (الى اليمين) على شكل بركة يغرق فيها ضحية بريئة، وفي انفاسه الاخيرة يلوح بيده عسى ان يمسك بقشة تنقذه.. لكن الفنان لا يظهر لنا سوى تلك اليد اليائسة. والغضب الذي يشعر به اي انسان سوي كرد فعل لهذا الموت الخالي من الرحمة، تجسده عين سيدة ريفية شابة تعتمر غطاء الرأس الشعبي وتلفها عباءة كانت سوداء، ولكن الفنان يراها بتداعياته تميل الى اللون الاصفر، وهي صفة تطلق عليها حين تبلى وتصبح قديمة. اي ان الغضب الشعبي لافعال الحقد والغدر هو امر مستهجن منذ مدة طويلة، منذ ان كانت عباءات العذارى العراقيات سوادوات.
ولكن الامل في الخلاص موجود، كما تؤكده زهرة الاقحوان في الركن السفلي الثاني للوحة (الايسر). والزهرة غير مرتبطة بساق ولا اوراق وهي في طريقها الى الذبول. ولكن نقاط صفراء تتحرك من وسط اللوحة باتجاهها لتشير الى تجدد الامل. يبقى ان السيدة العراقية الشابة قد اوجدت املا آخر. فهي تحمل جنينا قد بدأ حياته للتو. وقد جهد الفنان في اظهار الصفات التشريحية للجنين، ربما خلال الاسابيع الاولى لخلقه، وان تصوره اقرب الى شكل السمكة، فهو مثلها يسبح في رحم امه.
ومع ذلك لا تطرح اللوحة حلولا، ولكنها تواسي من اصابه غدر الارهاب. فكل ما تراه اللوحة في المستقبل هو لون اخضر دافيء يحتل مساحتها اليسرى خلف الشابة الحوراء الحذرة، ولكنه ينعكس ايضا على وجهها. وحين تضع وليدها سيكون كل ما في اللوحة اخضرا، كما هو تصور الفنان لمستقبل العراق.
ان الايحاءات التي يقدمها الفنان في تلك اللوحة هي جرعات مسكنة للالم الذي صار مزمنا، وذلك امر مهم. فالصبر على المأساة يجعل المرء قادرا على تجاوزها ومستعدا لمواصلة الحياة. واذا كان تقديم الامل عمل نبيل، فقد استطاعت سوريالية الفنان ماجد السنجري، في لوحته (نصف الحقيقة) ان تنسب لنفسها هذا الشرف. ومرة اخرى ينجح المذهب السوريالي في تواصل انساني مثمر، ربما يتعذر على غيره.

Tuesday, May 31, 2005

الفنانة يقين الدليمي.. شعاع العشق وعودة الروح

Painting of Yaqeen
ينبثق من ثنايا لوحات الفنانة يقين الدليمي شعاع خافت تارة، وصارخ تارة اخرى يبعث الروح فيها بعد انتظار الموت اليقيني. ورغم طغيان الظلام والجو الغروبي الشتائي الحزين، وتعقد الانحناءات والتعرجات التي تغطي مشهد اللوحة، يحمل هذا الشعاع بصيص امل في تواصل الحياة، وان كانت اللوحة تبشر بفنائها.. هذا الشعاع الوردي احيانا والبنفسجي او الاصفر الفاقع احيانا اخرى، انما هو الخيط الذي توصل به انسجة اللوحة المهترئة بفعل الحزن العميق والازلي، والتضحية والتسامي والتوحد مع الطبيعة.
والمرأة، عنوان اللوحة وغايتها، ان كانت حاضرة بجسدها، او ترفرف روحها في جو اللوحة، ليست ذات شخصية محددة المعالم.. تقص حكاية الحب والانتظار الممل والهجر واخيرا النبذ، على جذع الشجرة الميتة.. بينما يمتد جسد المرأة متوحدا مع الجذع ليكون ساقا واوراقا متدلية.. ومع ذلك فالزهور باهتة منتشرة في سماء اللوحة دون اكتراث لموقعها الفيزيائي، غير انها تتناغم مع التواءات جسد الانثى في هارمونية ممتعة، بينما تحول حزمة الضوء الخلفية المكان والزمان الى وحدات ثانوية، يغيب الشعور بهما، لتتجسد مأساة انثى تلوي راسها حزنا والما.
والحب قد يكون موضوعا شيقا حينما يلتف جسدان في رقصة فالس تعزف الريح انغامها وهي تعبر الوادي المقفر، وتكفهر السماء منذرة بالعقاب للفاحشة التي توشك ان تقع، ومع ذلك فالشعاع في وسط اللوحة يحمل العاشقان على العناق، وتشيع النشوة في هذا الحيز الصغير فقط ، كما هو شأنها دائما. غير ان تلك النشوة قد تستشري في اللوحة مع توحد العشق والطبيعة في كائن شبيه بطائر البجع، ينشر ريشه على مساحة تتزايد تدريجيا، لتعم جميع اللوحة الا بقعة الضوء الباهرة التي تشي ان الحب اللذيذ قد ارسل رعشته بين الثنايا اللامتناهية للوحة.
Painting of Yaqeen
والعشق قد لا يكون بين كائنين فقط، فحينما تقرر الفنانة ان تصور مدينة، يكون العشق هو عنصر الربط في تلك المدينة ايضا.. فالبيوت متراصة ومتداخلة الى درجة الحب، يهيمن عليها مشهد القبة والمئذنة الاسلاميتين ليحددا هوية المدينة.. وينتصبا شامخين وهما يحتضنان البيوت الكثيرة النوافذ، وان كانت جميعها مغلقة. ويخترق الشعاع (اليقيني) الفسحة بين القبة والمئذنة لينتشر الى اطراف المدينة في استحياء ليضع كل جزء في زمن، ازمان الصلوات والاذان، حتى تشعر بالمؤذن يدعو للصلاة ولكنك لن تعرف اية صلاة يدعو اليها مع ضياع الزمن.. كناية عن ضياع الانسان الذي شاء ان يسكن في طرف المدينة.
لاشك ان المأساة تتجلى في بعض لوحات الفنانة بشكل يبعث على الاسى.. ولكن الامل في الخلاص يبقى مرتسما بشعاع ضوئي باهر، او خافت، يتمركز في وسط اللوحة.. وربما ينتشر الى اطرافها، واذا كان كل ما في اللوحة يبعث على الشك.. فان حزمة الضوء الخلفية هي حقيقة واقعة و(يقين).

Monday, May 30, 2005

الفنان مؤيد محسن.. العزف على اوتار الزمن

Paiting of Muayad
لايستطيع من يتطلع الى احدى لوحات الفنان المبدع مؤيد محسن ان يشيح ببصره عنها بسهولة، ذلك انها تمتلك قدرة هائلة في التأثير على المتلقي وتحتوي على عناصر جذب تجعله يبحث في ثناياها عن اجوبة لاسئلة تدور في خلده.
فالزمن -ذلك العنصر الغامض في مسيرة الحياة- حاضر في اللوحة، مجسدا من خلال استخدام الشخوص الحضارية لمراحل مختلفة من تاريخ العراق، والتعبير عنه بآثاره او بالبدائل الدالة عليه (كسكة الحديد مثلا). وماهية الزمن سؤال مطروح باستمرار، والاجابة عنه قد تكون بالغة التعقيد، غير ان تعبير الفنان عنه يجعلها اجابة واضحة بسيطة.. العمر ينقضي، ذلك هو الزمن، والحضارات تنسلخ وتتوارث في مسيرة التغيير الابدية، والشخوص الحجرية تعلن توقف الزمن، بينما تحاور الالة الموسيقية ضريحا لعبد صالح، في اطار لحظي ينساب خلال عصور عديدة.
ان هموم حضارات وادي الرافدين تكاد تنصب في هموم المواطن المعاصر، لذلك نرى في لوحات عديدة حضور الرموز الحضارية، من تماثيل وابنية، كبديل للانسان العراقي، وكتعبير عن ذلك التواصل التاريخي الذي لايزال مستمرا لشعب العراق، والذي يجعله محط انظار واحترام العالم اجمع.
ففي لوحة (احتضار كوديا) نجد تمثالا للملك السومري العادل (كوديا) وقد انتصب على خط للسكة الحديدية، التي تنعطف من عمق اللوحة وهي تمر خلال ارض جرداء بينما تناثر حطام من التمثال بالقرب منه، وحدث فيه تصدع (رغم ان التمثال الاصلي هو من حجر الديوريت شديد الصلابة)، وهنا تعبير عن عمل الزمن في الاشياء، فهي مهما تكن صلبة فانها ستتحطم وتتصدع وتذوب كما لو كانت من الشمع. وبينما تكفهر السماء وتتلبد بالغيوم، يسلط الفنان ضوءا من جانب اللوحة على التمثال، مبرزا بقوة عنصر اللوحة الرئيس، ومؤكدا قدرته المميزة على تصوير الضوء والظل. وعلى رأس الملك السومري تقف حمامة بيضاء، رمزا للسلام الذي يؤكد عليه الفنان، ومبينا في الوقت نفسه توقف الحركة بالنسبة الى التمثال. فالملك العظيم، لايستطيع ان يزيح عنه تلك الحمامة التي تبدو اكثر قدرة منه في الوقت الراهن. وفي عمق اللوحة، وعلى مرتفع، تظهر قبة مخروطية، من عصور اسلامية متأخرة، لتستحضر تاريخا مغايرا، وتعبيرا عن الحركة اللامتناهية لعجلة الزمن، وربما افضلية الحضارة الاسلامية.
Paiting of Muayad
وفي لوحة اخرى اطلق عليها الفنان (مكان تحاصره الاحزان)، نرى مشهدا داخليا لبيت معاصر، واول ما يقع عليه البصر تلك الصورة الحزينة لامرأة تداعب طفلا معلقة على الجدار، وقد وشحت بشريط اسود في زاويتها، فنستنتج مباشرة مأساة موت الام والطفلة، بينما رقد رب الاسرة المنكوب قرب الصورة، وقد استبدله الفنان بتمثال شهير من حضارة وادي الرافدين، ووقفت حمامة السلام على قاعدته، تعبيرا -مرة اخرى- عن سكون الزمن وفقدان القدرة، والاستسلام لحتمية قاتمة. وهناك صندوق في وسط اللوحة ربما للايحاء بصندوق للذكريات طالما فتحه المنكوب متحسرا، بينما يمكن تفسير المعول في الجهة المقابلة للصندوق على انه اداة الدفن، او اداة البناء في آن، فهو مفتاح للخروج من تلك الازمة الكئيبة التي تطرحها اللوحة. غير ان جو اللوحة العام ليس حزينا، فالنور يسطع من الباب الجانبية، والسماء زرقاء مزينة ببعض الغيوم كما تبدو من نافذة الغرفة.. وهذا ماخلق توازنا في اللوحة يبين قدرة الفنان على مداراة احاسيس المتلقي بحيث لايسبب لديه ازمة نفسية وهو يطرح موضوعه.. جدلية الحياة والموت.
ان لوحات الفنان مؤيد محسن، لوحات مبدع عراقي بابلي مخلص لحضارته وتاريخه، ونفس باحثة في ثنايا الاشياء عن القيم العليا في مسيرة الانسانية، وانامل رقيقة تجيد العزف الممتع/ الخطر على اوتار الزمن.

Saturday, May 28, 2005

الفنانة سهاد ناجي: تشاطر الازمة والحلول

Painting of Suhad
ارتبط الفن منذ نشأته باحاسيس وانطباعات الانسان، وعبر الفنانون الاوائل في نقوشهم على جدران الكهوف عن مخاوفهم وامالهم.. واذا كان الفن قد مر بمراحل تطور كثيرة، الا انه في الواقع لم يتخل عن مهمته الاصلية.. وظل ميدانا لطرح الافكار ورصد المواقف والتعبير عن قيم عليا طالما شكلت حلم البشرية.
ان من يتطلع الى لوحات الفنانة الشابة (سهاد ناجي) ربما لن يجد عنصرا مميزا.. وقد يتعجل الحكم عليها باعتبارها اعمالا عادية لفنان مبتديء. غير ان نظرة فاحصة ومعرفة اكثر بشخصية الفنانة قد تحول انتباهنا الى قضايا اكثر عمقا. ولا شك ان شخصية الفنان عنصر مهم في العمل الفني، الا تجد اننا نتطلع الى اعمال مايكل انجلو مع معرفتنا بشخصيته الحادة العصابية؟ كما اننا نتمتع بالفن الحالم لرافائيل الوديع الدمث.
ففي لوحة (بركة غير هادئة) تجد امواج المياه تنحصر في وادِ محاط بالصخور المرتفعة مما يبعث الضيق في النفس خصوصا مع انعكاسات الصخور الصفراء على صفحات المياه المتوجة، مما يجعل اللوحة تعج بالالوان الصفراء والبنية التي تزيد الموقف تأزما ولا يفلح لون الماء الازرق في التخفيف من الازمة بسبب تحولها نحو الداكن واختلاطها بالرمادي. ان جو الازمة في اللوحة هو تعبير عن ازمة الحياة في المدينة.. ولا تجد الفنانة اي مخرج لها، كما انها لاتقترح حلا ما. فهي تجعلك تتساءل عن جدوى الحزن لا عن سببه.
Painting of Suhad
ولا يكون الجو اكثر اشراقا في لوحتها (جنوح).. فهنا مركب شراعي جنح الى حافة صخرية دون ان نعرف متى وقع ذلك. الا ان بقاء الشراع سليما يدل على ان الامر ليس مأساويا رغم غياب اية اشارة الى وجود آدمي. وفي هذه اللوحة لا تجد مصدرا للنور، بينما يختلط اللون الاخضر مع زرقة السماء الداكنة موحيا بعدم اهمية المكان، ذلك الذي لا يحتوي الا على بضعة غربان تحوم في سمائه الملبدة. والازمة هنا تصل اوجها. ازمة الرحلة المفروضة المعبر عنها بحياة الكائن البشري، وامكانية انتهائها في اية لحظة دون ان يكون لذلك اهمية في المشهد العام.
ان اعمال الفنانة سهاد ناجي لا تسعى الى طرح الحلول والمعالجات، ولا تكترث بالتوازن اللوني لارضاء المشاهد. انها تسعى للتنبيه الى واقع غير سار والى حقيقة ليست مفرحة. وهي تترك الخيار للمتلقي في ايجاد التعادل المطلوب او الانصراف الى شأنه. ونحن نجد ان غالبية المتلقين لا يرغبون في مثل هذه الحرية، فالمشاهد يريد ان يشده العمل الفني دون ان يتكبد عناء ايجاد عمل فني بديل في مخيلته. ولكننا نعتقد ايضا ان هذا الطلب انما هو تغيير في احد اركان شخصية الفنانة، الامر الذي من شأنه ان يقلل من اهمية اعمالها ذات الطابع الباحث عن المشاركة.

Friday, May 27, 2005

الفنان احمد البصري: احلام الاطفال.. امنيات الكبار

Painting of Ahmed
هل صحيح اننا ننسى احلامنا الصغيرة عندما نكبر؟ اذا لماذا نحن دوما الى ايام الطفولة؟ لعل جزءا مهما من شخصية الانسان ترتسم ملامحه في فترة الطفولة، لكن احلام الطفولة تبقى على الدوام الركن الذي نلجأ اليه حينما تضيق بنا الحياة، او ترهقنا مسؤولية العيش كبالغين.
وهذا هو بالضبط ما يسعى الفنان الشاب احمد البصري الى تجسيده في لوحاته. فهي تحمل سمات تنم عن بساطة شديدة ووضوح في الطرح، وبراءة تجعل المتلقي يتأمل فيها بطريقة مختلفة عن الاعمال الفنية الاخرى.
فهو ربما يصور شخصيات تاريخية معروفة، ولكنه لا يضع السياق الزمني لتلك الشخصية، ولا سلسلة احداث متتالية، ولا يؤرخ لاي شيء. بل على العكس، تنقلك الفنتازيا الى اجواء مغايرة للتاريخ الذي ينبغي ان تكون عليه وفقا للمنطق. وهل نحتاج الى المنطق، حينما ننتقل من الواقع الحسي الرتيب.. الى عالم طفولي، خيالي، متأمل؟ فتلك كليوباترا تستقل قاربا بصحبة احد ملوك بابل (نبوخذنصر؟) تتوسطهما شمعة يتمايل لهبها الازرق مع نسمات خفيفة ناشرة اجواء الرومانسية البهيجة، بينما يتطلع احدهما الى الاخر في هيام وعشق.. وتساهم السماء في احتفالية الزواج الملكي هذه بارسالها اشرطة تتشكل في شكل زخارف تطرز ارضية اللوحة. ومع ذلك، فان ما يظهر من العاشقين هو رأسيهما فقط، كما تجسدها التماثيل الاثرية المعروفة. ولان اللوحة طفولية، فالحب افلاطوني، اذا لا حاجة الى باقي الجسد. ولكن الفنان يوحي اليك ان الحضارات تتزاوج ايضا، ويتمنى، كما ينبغي للكبار ان يتنموا، ان تتحول احلام الصغار هذه الى حقيقة.. الى مدينة فاضلة خارجة عن الزمن، متجردة عن المكان.
Painting of Ahmed
ولكن المدينة الفاضلة موجودة في لوحة اخرى.. حيث يعيش الناس في وئام وسلام. فالقباب الكبيرة للمسجد في زاوية منها لا تتنافى مع طاحونة هوائية في زاوية اخرى، وربما اشار بناء اخر الى كنيسة، بينما ترسو السفينة الشراعية قرب اطفال يلعبون، والنخلتين في الافق مصدر الخير واستبدال مؤقت للوطن.
لكن الفنان قد يستغرق في الفنتازيا فلا يعود ممكنا تبسيط الامور. والحلم الطفولي يكبر، وينتشر في ارجاء اللوحة.. في تعقيدات والتواءات تمثل محاولة لنسج قصة متسلسلة، لكن الاحداث ليست كذلك. وينشأ الصراع، بين الرغبة الجامحة، وقلة الحيلة.. بين السعي اليومي لاستحصال الرزق، والاستلقاء تحت ظل النخلة وهي ترسل تمراتها. والصبر، عنصر البقاء الذي لا مفر منه، يربط اجزاء اللوحة بروابط زخرفية، هي متاع الحياة الدنيا.. وتنعزل الشخوص وهي تنتظر احدها الاخر، بينما يتربص القارب على الشاطيء عساه ان يظفر بمن يستقله في الرحلة التالية.. الى الارض المباركة، او الجنة الموعودة، او المدنية الفاضلة.

Tuesday, May 24, 2005

الفنان ماجد السنجري: الابداع للتوثيق والحقيقة

Painting of Majid
منذ نشأته في الكهوف الحجرية، كان الفن وسيلة مهمة للكائن البشري من اجل توثيق احداث يومه، اضافة الى همومه ومخاوفه وآماله. وعلى مر العصور شكل تطور الفن مؤشرا رياديا لتطور الحياة الانسانية ورقي ثقافة المخلوق الاضعف-الاقوى التي أهلته للسيطرة على الكوكب الارضي. ولقد جاهد الفنانون سواء بقصد او بدون قصد لتوثيق الاحداث المهمة التي عاصروها، واصبحت نتاجاتهم مرجعا اساسيا في دراسة الفترة التي عاشوا فيها.
فليس من المستغرب اذا ان يكون هاجس التوثيق حاضرا في لوحات الفنان البابلي ماجد السنجري، هذا الفنان الذي تستغيث لوحاته لنجدة حضارة الثمانية الاف سنة التي ينتمي اليها. وهو يشعر بالاسى للغياب المفاجيء لبعض رموز تلك الحضارة الفريدة اثر تحرير/غزو بغداد. هذا ما تصرح به لوحته (هذا كل ما جرى) من خلال تصوير مجموعة اللصوص الذين نهبوا محتويات المتحف العراقي في الايام الاولى لسقوط بغداد. ورغم ان النهب يتم بدون ادنى رقابة او ملاحقة، الا ان الكل يشعر بالذنب، تهزهم ادنى لفتة، ويحسبون كل صيحة عليهم.. فالكل يلتفت الى مصدر ضوء خفي من زاوية اللوحة، وفي لحظة توقف الزمن، وتسمرت الاجساد وساد هدوء تام في غمرة الحركة. الوجوه مجللة بالخزي للفعل الشنيع، يفضح ذلك التناقض اللوني بين الاسود والابيض نتيجة ومضة الضوء.. وكأن اللوحة تريد ان تقول لنا انهم لصوص، ولكننا نعرفهم. وهم من نسيج هذا المجتمع لانهم يلبسون ارديته التراثية، وهم مذنبون بنفس القدر الذي نحن عليه لاننا لم نمنعهم ولو بومضة ضوء واحدة. ان فعلهم مفضوح لنا كما هو شأن البغي التي علقها الفنان في زاوية اللوحة وهي عارية، لانها كما الحقيقة، لا يمكن ان تحجب الى الابد.
Painting of Majid
والفنان لايكون دائما بهذا القدر من وضوح الغاية.. فلربما يستعير من مخيلته تداعيات فردية او جمعية ليحشرها في اطار عمل فني، ثم يكدح ليربطها في نسيج متآلف. ففي لوحة (خيوط ذهبية) يصدأ الذهب مخالفا طبيعته الكيميائية، وينشر خيوطا متفرقة في زاويتين متقابلتين لتحتضن وجه جانبي لامرأة تفخر بهذا الكنز، الذي يبدو انه صنيعة الشيطان ذو العين الواحدة. ومع ذلك فان الخير عنصر اولي في طبيعة الانسان، ولذلك فهو مستقر داخل النفس الانسانية على شكل بقعة ضوء ابيض تناضل للتوسع على حساب طبقات من العتمة، ويبشر الفنان بالنصر الوشيك، مع تحول احد هذه الطبقات الى الازرق الفاتح. والشر طاريء، لانه خارج حيز الكائن البشري، وان كان متربعا فوقه. ففي النهاية ستجود تلك المرأة بما تملك من اجل الفقراء، ربما بالوصية؟
ان السوريالية في اعمال الفنان ماجد السنجري هي حدث فريد، واسلوب خاص. ومع ذلك فان لديه القدرة على التواصل اللاواعي مع المتلقي. واذا اردت ان تستغرق في احد تلك السورياليات فستجد نفسك في منطقة الحلم الخاصة بك، لتتحول تداعياتك الى ذاتك في استبطان لذيذ-مرعب، ليس طوعيا تماما، ولكنه بالتأكيد ليس قسريا. وفي لحظة واحدة ستكتشف الحقيقة.. فهي كانت ولازالت وستظل الى الابد داخل كل نفس بشرية، فردية خالصة، وجمعية مشتركة.. ولكنها واحدة لمن يفتح عينيه لرؤيتها.