Thursday, September 07, 2006

الفنانة نادية محمد ياس: غياب الجسد وحضور الظل


تواجهك الفنانة نادية محمد ياس بصراحة مع ذاتك وترغمك على الاستبطان بطريقة مبسطة ولكن لا تخلو من ذكاء. هذه المواجهة القدرية التي نحاول الهرب منها باستمرار.. نهرب من المرايا وصفحات الماء، كما نهرب من عيون الاخرين وعبراتهم. فهي تجعلنا نسأل عن الحاضر بينما نفتقد الغائب بين ثنايا قطع الاثاث البالية او شماعات الملابس، ثم ترغمنا على تحسس اطرافنا لنتأكد انها لم يتم اقتطاعها لصالح اللوحة. وبينما نجد يدا معلقة الى كرسي، او قدمين غابتا تحت قميص اجوف، يخاورنا شعور بان باقي الجسد قد استحال الى شبح او ظل يخيم على اللوحة معلنا موتا آخر لكائن حي.
ولكن اليد قد تكون امتدادا للكائن الحي في محيط سوريالي يستحضر حضارات سادت ثم بادت.. تلك التي كرست الرجل في صورة ملك – إله لا يشق له غبار، وجعلت المرأة سلاحه في فرض سلطته غير المتناهية، ومن ثم كساها بقميص مزركش بالوان النار اشباعا لغروره وتأكيدا لسطوته. وان كانت الرغبة الجنسية متناظرة بين المرأة والرجل، الا انها في لوحات الفنانة تمردا على امتياز الرجل في احتكارها بما يلائمه. فالمرأة فرس ثائرة حينما يغيب الملك عنها جسدا، ويحضر ظلا باهتا في خلفية اللوحة ليدل على عدم اكتراثه، ولا يقوى قميصها على احتمال فورة الرغبة الجائشة في الصدر فيتفتق كاشفا عنه دون ابتذال.


والمرأة هي عنوان لوحات الفنانة نادية وموضوعها. والعنوان الابرز تمردها على الضعف والعجز، والرغبة في اظهار التساوي والتناظر بين الجنسين. وهي لا تتهم الرجل مباشرة بالاضطهاد والتمييز، لكنها لا تخفي امتعاضها من كتابة التاريخ ذكوريا، واهماله دور حاضنة الرجل صغيرا ويافعا ومن ثم شيخا كبيرا.. او ربما ملكا. نعم هي تبتعد عن الاشارة الى الام او الطفل او الزوجة، ولكنك تملأ هذا الفراغ بايحاءات ذاتية تفرضها الطبيعة كثمرة للحب واشباع الرغبة. وهي تستعين باستعارات شتى لتحملك على التفكير في العائلة. فالملك البابلي يقف الى جانب فراش الزوجية بينما تعرّت الزوجة تلبية لرغبته على ما يبدو.. ويعلن القميص من جديد اشتعال الرغبة في موقع اخر منفصل ولكنه غير بعيد. والملك يقود معشوقته الى الشاطيء ولكنها تستحيل ثوبا احمرا قانيا يقطر دما، بينما يخيم ظلها في طرف اللوحة. والجريمة قد تكون في دورة الحياة المتكررة شهريا.. ضريبة الطفل والعائلة التي تدفعها المرأة منفردة، وعليها وحدها ان تدفع –جسديا- ثمن بناء العائلة. وهي لذلك تسعى الى التخلص من ذلك الجسد بالهروب الى ظله، مع ابقاء الرابط اليه متمثلا بالقميص المرتبط بدوره بالمعشوق-الملك. وبالطبع فان محاولة الحبيب التخفيف من هذه الحمى لا تجدي نفعا فهو انما يواسيها بماء ينقله بدلوه الصغير، بينما تنزف هي دما من جسدها. ومرة اخرى يغيب التوافق، وتعمل الطبيعة على كبح الرغبات هذه المرة.
ان الاستغراق في لوحات الفنانة يمنحك متعة الشعور بان الحياة تدب في الاطراف المجتزأة من كينونات اخرى. لايهم ان كان الكرسي باليا او كان القميص مجعدا.. ففي النهاية هي مجرد ادوات قابلة للاستبدال. ولكن الظل الساكن كما الموت احيانا، او النابض بالعشق احيانا اخرى ينبأك بان حقيقة الحياة لا تعتمد على فيزياء او كيمياء الجسد بقدر اعتمادها على سيكولوجيا الحب والعشق، لحظات النشوة او اوقات السكون المطبق الدال على سلام كوني شامل.
وتعمد الفنانة الى استخدام الوان الاحمر والاصفر والبرتقالي وربما الزهري لاظهار عناصر اللوحة المتقدة، بينما يسود الرمادي والاخضر الداكن وقليل من الازرق عناصر اللوحة الاقل اهمية. وهذا الاختيار اللوني موفق تماما في ملائمته لطبيعة الانسان وانجذابه للالوان الصارخة. فهي انما تستعمل موجات الضوء وتمايز الالوان في مخاطبة لاوعي المتلقي، ونقل الصورة الى مستوى ادراكه الحسي وبالتالي ضمان تفاعله مع اللوحة.
ان اصرار الفنانة نادية محمد ياس على اظهار جوانب مسكوت عنها في حياة المرأة، وطرحها قضية التساوي دون اتهام للطرف المقابل، وتمردها على الضعف والاستسلام الانثوي، وتأكيدها على الحضور والغياب الروحيين دون اعتبار لمتطلبات الزمان والمكان، انما يدل على حس مرهف وشعور متيقظ وجرأة مذهلة، تنساب الى انامل مبدعة لتداعب الريشة والزيت في لوحات اقل ما توصف بانها متعة متسامية، تبدأ باللاوعي لتمر عبر ادراك خفي الى مستوى الوعي الكامل بوجود متمايز ومناظر.