Tuesday, September 20, 2005

نصف الحقيقة.. سوريالية الالم والامل

Painting of Majid
يعتبر المذهب السوريالي احد المتغيرات الرئيسة التي حطمت قيود المذهب الكلاسيكي للفن التشكيلي في بداية القرن المنصرم. وقد ظهرت هذه الحركة على يد الفنانين بابلو بيكاسو وسلفادور دالي، وغيرهما من الفنانين الاوربيين الذين احدثوا ثورة في مفاهيم الفن التشيكلي، كما في الفكر الاوربي الحديث ابان الحربين العالميتين الاولى والثانية، وامتدت تأثيراتها الى يومنا هذا. ولعل السحر الذي يتميز به الفن السوريالي يكمن في مخاطبة منطقة الحلم او اللاوعي في النفس البشرية، ومحاولة كسر القيود الثقافية والاجتماعية، والتواصل بطريقة الايحاء. ورغم ان الفن الكلاسيكي بمدارسه المختلفة سعى منذ البداية الى مثل هذا التواصل من خلال تجسيد عناصر الجمال والكمال في الطبيعة والانسان، الا ان رغبة الانسان في استكناه المجهول وجدت في تداعيات العمل الفني السوريالي قدرة اكبر على تجسيد احاسيس لا يمكن التعبير عنها بخطوط والوان مطابقة للواقع وهو في افضل حالاته. لكن العمل السوريالي مع ذلك واقعي جدا وغير منفصل عن الحياة اليومية، ومتجانس مع تطور الفكر الانساني بشكل عام.
وقد امتدت تأثيرات هذا المذهب لتشمل في وقت مبكر فنانين عراقيين كانوا روادا للنهضة الفنية اولا، ومجسدين لهذا التطور الفكري. فكما احدث السياب ثورة في الشعر بارساله حرا، فانتج روائع تفوق في حسها وسلاستها الكثير من القصائد الصارمة في الوزن والقافية، كذلك فعل فنانون تشكيليون متميزون من امثال فائق حسن وجواد سليم وجميل حمودي ونوري الرواي وغيرهم ممن حملوا لواء هذا المذهب في اربعينيات القرن العشرين وما بعدها. وقد استطاعوا بفضل امتدادهم التاريخي، المتأصل في لاوعيهم، والممتد لالاف عدة من السنين، ان يوجدوا ارضية قوية لهذا المذهب في العراق بحيث حققوا تفردا خاصا بهذه البلاد تحمل سماتها وتنطق بحضاراتها.
واذا كانت الحضارة بشكل عام ملهمة لوارثيها، فلاشك ان الحضارة البابلية قد الهمت ابناء مدينتهم الشيء الكثير، فانتجت فنانين في شتى المذاهب الفنية، ولكن نخص منهم من اتباع المذهب السوريالي الفنانين سعد الطائي وفاخر محمد ومؤيد محسن وسمير يوسف وصفاء السعدون وعاصم عبد الامير واخرون، ممن تفخر القاعات الفنية باعمالهم المتميزة المستوحية للحضارة، والمعبرة عن الفكر بطريق اللاوعي.
لقد قدمت ان الفن السوريالي لا ينفصل عن الواقع، وان استغرق في الرؤية الحلمية اللاواعية. وقد ارتأيت ان اوضح هذه الافكار في لوحة متميزة للفنان العراقي - البابلي ماجد السنجري، وهو سوريالي النزعة، حملت اسم (نصف الحقيقة). ان هذا الفنان العراقي مسكون بالالم للواقع اليومي من العمليات الارهابية التي يعيشها العراق، والتي بدأت تفت في عضد افراد الشعب العراقي، حتى ان فسحة الامل في الخلاص اخذت بالتناقص شيئا فشيئا. لكن لوحته (نصف الحقيقة) قد اخذت منحى آخر. فهي وان كانت تؤكد ضرواة الفعل الارهابي، الا انها تسعى الى التخفيف من حدته بطرح الموازن والنظرة التفاؤلية الحذرة الى المستقبل.
ففي تلك اللوحة تجد توازنا مدهشا بين اللونين الاحمر الاجواني الذي يتدرج نحو الوردي الفاتح، وبين اللون الاخضر النباتي الهاديء. وفيما يتغلل اللون الاصفر في عمق مساحتيهما، يشكل اللونان الازرق والاسود حدود هذا التغلغل. وكأن الفنان بهذا التحديد اللوني اراد ان يسمي الاشياء بمسمياتها، مبتعدا عن اطلاق اوصاف تجميلية لافعال قبيحة او التبشير بما لا يمكن ان يكون.
وقد طرح الفنان موضوعة الارهاب بقوة من خلال العنكبوت المتسلق الى اعلى اللوحة، وهو يقطر دما، يتجمع في اسفلها (الى اليمين) على شكل بركة يغرق فيها ضحية بريئة، وفي انفاسه الاخيرة يلوح بيده عسى ان يمسك بقشة تنقذه.. لكن الفنان لا يظهر لنا سوى تلك اليد اليائسة. والغضب الذي يشعر به اي انسان سوي كرد فعل لهذا الموت الخالي من الرحمة، تجسده عين سيدة ريفية شابة تعتمر غطاء الرأس الشعبي وتلفها عباءة كانت سوداء، ولكن الفنان يراها بتداعياته تميل الى اللون الاصفر، وهي صفة تطلق عليها حين تبلى وتصبح قديمة. اي ان الغضب الشعبي لافعال الحقد والغدر هو امر مستهجن منذ مدة طويلة، منذ ان كانت عباءات العذارى العراقيات سوادوات.
ولكن الامل في الخلاص موجود، كما تؤكده زهرة الاقحوان في الركن السفلي الثاني للوحة (الايسر). والزهرة غير مرتبطة بساق ولا اوراق وهي في طريقها الى الذبول. ولكن نقاط صفراء تتحرك من وسط اللوحة باتجاهها لتشير الى تجدد الامل. يبقى ان السيدة العراقية الشابة قد اوجدت املا آخر. فهي تحمل جنينا قد بدأ حياته للتو. وقد جهد الفنان في اظهار الصفات التشريحية للجنين، ربما خلال الاسابيع الاولى لخلقه، وان تصوره اقرب الى شكل السمكة، فهو مثلها يسبح في رحم امه.
ومع ذلك لا تطرح اللوحة حلولا، ولكنها تواسي من اصابه غدر الارهاب. فكل ما تراه اللوحة في المستقبل هو لون اخضر دافيء يحتل مساحتها اليسرى خلف الشابة الحوراء الحذرة، ولكنه ينعكس ايضا على وجهها. وحين تضع وليدها سيكون كل ما في اللوحة اخضرا، كما هو تصور الفنان لمستقبل العراق.
ان الايحاءات التي يقدمها الفنان في تلك اللوحة هي جرعات مسكنة للالم الذي صار مزمنا، وذلك امر مهم. فالصبر على المأساة يجعل المرء قادرا على تجاوزها ومستعدا لمواصلة الحياة. واذا كان تقديم الامل عمل نبيل، فقد استطاعت سوريالية الفنان ماجد السنجري، في لوحته (نصف الحقيقة) ان تنسب لنفسها هذا الشرف. ومرة اخرى ينجح المذهب السوريالي في تواصل انساني مثمر، ربما يتعذر على غيره.

No comments: